الأحد، 26 يونيو 2011

** دمــــية سلمــــى **







كانت سلمى تضع دميتها الجميلة على ركبتيها و تجلس على الأرجوحة في الحديقة الخلفية من منزلها. كانت تأرجح ساقيها متابعة حركة الأرجوحة البطيئة و في عينيها نظرة حزينة. كانت الدمية قد فقدت ذراعها! حاولت إصلاحها لكن بدا أنها انفصلت بلا رجعة. فجأة قفزت من مقعدها و دخلت راكضة إلى المنزل و هي تنادي :
ـ أمي، أمي...

ـ نعم، سلمى... أنا في المطبخ

وصلت سلمى إلى المطبخ و هي تلهث حاملة في يدها اليمنى الدمية و في يدها اليسرى الذراع المفصولة.

ـ أمي يجب أن نأخذ سالي إلى الطبيب!

نظرت إليها أمها مبتسمة و رفعت حاجبيها في استغراب :
ـ إلى الطبيب؟ و لكنها دمية يا سلمى. الطبيب يداوي البشر و لا يمكنه أن يشفي دميتك...

عقدت سلمى ذراعيها أمام صدرها في غضب و هتفت :
ـ كيف يمكن للطبيب أن يشفي البشر و لا يمكنه مداواة دمية صغيرة!

كتمت الأم ضحكة أوشكت أن تفلت منها
ـ اتركي سالي الآن و سأشتري لك دمية جديدة في الغد

ـ لا أريد دمية جديدة! أريد سالي... لو مرضت أو حصل لي مكروه، هل كنت ستأتين ببنت أخرى و تتخلين عني؟

تأثرت الأم بكلام ابنتها فجلست و جذبتها لتجلس إلى دانبها و قالت في هدوء :
ـ لا تقولي هذا يا صغيرتي، لا يمكنني أن أتخلى عنك فأنت ابنتي حبيبتي، أنت لحمي و دمي... حين تمرضين آتي لك بكل أطباء العالم و أفعل ما بوسعي، أسهر إلى جانب سريرك طوال الليل و أدعو الله أن يشفيك. أنت كنزي الصغير...


كانت سلمى قد هدأت و قالت مغمغمة :

ـ فلماذا لا تريدينني أن أعتني بسالي إذن؟

ـ المشكلة هي أنه لا يوجد أطباء للدمى! لذلك لا يسعني أن أحضر أحدهم

وقفت سلمى متحمسة و هتفت :

ـ حين أكبر سأصبح طبيبة للدمى!

هذه المرة انفجرت الأم ضاحكة أمام موقف ابنتها البريء :

ـ حسن، في الانتظار ماذا سنفعل لسالي؟

حين عاد والدها من العمل كانت سلمى تجلس القرفصاء على عتبة الباب و قد احتضنت دميتها في حنان، و كانت ذراعها مربوطة بقطعة قماش إلى بقية جسمها.
وقفت لتعانقه في حب ثم عادت لتجلس في حزن


ـ ماذا في يدك يا سلمى؟

ـ إنها سالي يا أبي، فقدت ذراعها فأعادتها أمي و ربطتها بالقماش...

ابتسم الأب و هو يجلس إلى جانب ابنته :

ـ مسكينة، يجب أن نجري لها عملية جراحية!

ـ لا يا أبي، ألا تعلم أن الأطباء لا يداوون إلا المرضى من البشر؟ لم يتخصص أحدهم في أمراض الدمى بعد. لكنني سأفعل حين أكبر...

انفجر الأب ضاحكا و قبل ابنته البريئة و هو يقول :
ـ قبل أن تفكري في التخصص في أمراض الدمى تعالي سأريك شيئا


أمسك بيدها الصغيرة في كفه و دخلا قاعة الجلوس.
فتح الأب التلفاز، و اتخذت سلمى مجلسها قريبا منه، تتابع حركاته في اهتمام. كانت نشرة الأخبار تنقل صور الجرحى إثر الاعتداء الأمريكي على العراق، و الجثث المتناثرة هنا و هناك مع نقص الأطباء و الدواء و الأماكن المحدودة في المستشفيات.
نظرت سلمى الصغيرة إلى الشاشة في فزع، فلم تكن في سنها تتابع الأخبار أو تهتم بها :

ـ ما الذي يحصل هناك يا أبي؟

ـ أرأيت يا بنيتي؟ هؤلاء بشر مثلنا، ليسوا دمى و لا ألعابا و لكنهم لا يجدون من يداويهم. مهددون بالموت يوميا. قد يفقدون ساقا أو ذراعا و لا يجدون حتى كيف يربطونها بخرقة بالية مثل سالي. سالي محظوظة يا ابنتي لأنها وجدتك و لأنك مهتمة بها. بعض البشر في العالم لا يجد اهتماما من أحد.


أطرقت سلمى في حيرة :
ـ و لكن أطباء البشر كثر، في حينا أكثر من ثلاث عيادات... فكيف لا يجدون من يهتم بهم؟


ربت الأب على رأس ابنته و قال :

ـ نحمد الله لأننا في نعمة، الطبيب قريب و الصيدلي الذي نجد عنده الدواء في نهاية الشارع، كل المرافق الضرورية متوفرة لدينا. لكن إخواننا في أماكن أخرى من العالم العربي و المسلم يعانون من نقص الغذاء فما بالك بالدواء. بعضهم لا يجد قوت يومه و يبات بمعدة خاوية

تناول الأب الجريدة التي وضعها على الطاولة و بحث فيها لبرهة قبل أن يتوقف عند صورة مؤثرة لطفل رضيع لا يتجاوز عمره بضعة أشهر تحمله والدته بين ذراعيها بصعوبة نظرا لدقة عظامه و ضعف بنيته. و قال معلقا :

ـ الآلاف يموتون في النيجر بسبب نقص المياه و الطعام. المساعدات التي تقدم لهم غير كافية بالمرة، و الأمراض تنتشر بسرعة شديدة... و عدد الأطباء هناك ليس كافيا

بدا الاهتمام على الفتاة التي لم يتجاوز سنها الخمس سنوات :

ـ ألا يمكننا مساعدتهم يا أبي؟

ـ بالطبع يمكننا المساعدة، بتقديم التبرعات و إرسال الغذاء و الدواء. كما أن بعض الأطباء يسافرون إلى هناك لتقديم العون و معالجة الجرحى. و نملك أيضا أن ندعو لهم أن يرحمهم و يعينهم على مصيبتهم.

رفعت سلمى كيفيها الصغيرتين في دعاء بريء :

ـ يا رب لماذا يتعذب أهل النيجر و العراق؟ يا رب ارحمهم و أعنهم... يا رب أرسل لهم من يحمل الماء و الطعام, يا رب أرسل لهم الأطباء و الممرضين... يا رب تقبل مني...


أنهت سلمى الصغيرة دعاءها ثم وقفت و في عينيها نظرة حماس و تحد :

ـ حين أكبر سأصبح طبيبة للبشر و سأسافر إلى العراق لأساعدهم

ابتسم الأب في تفاؤل وهو يقول :

ـ نأمل أن لا تنتظرك الحرب!

ـ سأسافر إلى النيجر أيضا... بل إلى كل مكان يحتاجون فيه إلى الأطباء

توقفت للحظات متفكرة :

ـ و لكنني لن أكون قادرة على مداواتهم جميعا بمفردي... يجب أن يكون هناك عدد كبير من الأطباء معي...

نظر إليها والدها مبتسما :
ـ نعم بالطبع، إن شاء الله سيكون هناك الكثيرون من أبناء جيلك محبون لغيرهم، و يفعلون ما بوسعهم لتقديم العون لإخوانهم.


أخذت سلمى دميتها و دخلت إلى غرفتها. وضعتها على الفراش و غطتها جيدا ثم خرجت راكضة إلى أمها

ـ أمي أمي...

ـ نعم سلمى أنا هنا، ما الأمر؟

وصلت سلمى و هي تقفز منفعلة :

ـ لا أريد أن تشتري لي دمية جديدة، أريد شيئا آخر... في الغد أريد أن نذهب إلى المحل الذي اشترينا منه سالي... و تشترين لي علبة التمريض الكاملة. رأيتها عنده في المرة الماضية!

نظرت إليها والدتها في إشفاق :
ـ هل ستمرضينها إلى أن تشفى؟


هزت سلمى رأسها نفيا :

ـ لا يا أمي، غيرت رأيي... لكنني سأتدرب على التمريض من الآن... لأنني حين أكبر سأصبح طبيبة ماهرة و أسافر إلى العراق أو إلى أي مكان آخر يحتاجون فيه إلى الأطباء لأعالج الناس مجانا...

سكتت للحظات، ثم أضافت و على شفتيها ابتسماتها العذبة :
ـ ثم بعد أن يشفى جميع البشر، سأفكر في الدمى!


نظرت الأم إلى طفلتها في فخر :

ـ نعم يا ابنتي طبعا، لك ذلك... غدا بإذن الله نشتري العلبة


قفزت سلمى من الفرح و ركضت لتبشر والدها...




** تمت بحمد الله **

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق